الجمعة، 16 يناير 2009

القضية ثم القضية


بدأ الأمر وكأن ديماجوجية هزيلة ترد علي ديماجوجية اعلامية عربية مرتفعة الصوت،‮ ‬منهنا بدأ الموقف المصري مرتبكا‮ ‬هزيلا،‮ ‬لايجيد من يدافعون عنه ابراز الجانب العقلاني فيه،‮ ‬ما نشر في الحياة وبعض المنابر العالمية بدا اكثر‮ ‬انصافا للموقف الرسمي المصري مما صدر عن معظم منابر الاعلام المصري
مهما كانت التفاصيل مروعة فيجب ألا يغيب جوهر القضية الأساسية عنا،‮ ‬عن الموقف كله،‮ ‬المشهد تغلب عليه القوة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة التي تتوغل في قطاع‮ ‬غزة‮ (‬أكتب صباح الثلاثاء‮) ‬بدون أي شواهد تدل علي وجود مقاومة تتناسب مع الضجيج الاعلامي الذي أثاره قادة حماس ومن يناصرونهم،‮ ‬وبما يتسق مع تصريحات القائد السياسي للحركة خالد مشعل من دمشق،‮ ‬من يعرف التفاصيل وحقائق الموقف يدرك أن موازين القوي العسكرية علي الأرض ليست في صالحنا علي الاطلاق،‮ ‬تلك هي الحقيقة،‮ ‬الخسائر البشرية بين المدنيين الفلسطينيين مروعة،‮ ‬مذبحة حقيقية،‮ ‬أما صواريخ حماس فلم تحدث آثارا توازي تلك الضجة الاعلامية التي تثيرها اسرائيل في العالم،‮ ‬والتي أحدثت تأثيرها،‮ ‬تبدو اسرائيل الآن كدولة معتدي عليها،‮ ‬وانها تتحرك لحماية مواطنيها المدنيين هكذا يفشل مجلس الامن في مجرد اتخاذ قرار بوقف التوغل الإسرائيلي الوحشي،‮ ‬ويصرح رئيس الاتحاد الأوروبي حاليا‮» ‬من دولة التشيك‮ « ‬ان اسرائيل تمارس حق الدفاع عن النفس،‮ ‬الصورة مشوهة،‮ ‬لكن النفاذ إلي جوهر الموقف يجب ألا يغيب عن ابصارنا مهما بلغت القدرة علي تزييف الصورة،‮ ‬وقلب الحقائق،‮ ‬والضجيج الايديولوجي والاعلامي الصادر عن عواصم عربية تحاول ان تبريء ذمتها‮. ‬هنا اتوقف امام ثلاث نقاط‮.‬اولا‮: ‬جوهر القضية احتلال أراضي الشعب الفلسطيني،‮ ‬وتكثيف الاستيطان الإسرائيلي،‮ ‬اننا في مواجهة قضية وطن محتل،‮ ‬مهدد بأبشع أنواع الاستعمار،‮ ‬للاسف أدت سياسات حماس إلي تحويل القضية في اتجاه مسارات أخري تنأي بها عن جوهرها،‮ ‬أصبحت القضية الفلسطينية الوطنية جزءا من صراع اسلامي،‮ ‬يهودي،‮ ‬وصراع من صراعات في المنطقة تخص نظما بعينها،‮ ‬هنا أقول ان هذا يؤدي عمليا إلي تصفية القضية الوطنية الفلسطينية التي هي الجوهر،‮ ‬وهذه مخاطر تديين الصراع التي ركزت عليها حركة حماس،‮ ‬في نيويورك شاهدت مظاهرة ضخمة يوم السبت الأسبوع الماضي،‮ ‬وكان الغالب عليها هتافات دينية،‮ ‬هذا ضار بالقضية الفلسطينية الأساسية،‮ ‬فلسطين لها انصار من المسيحيين ومن اليهود انفسهم،‮ ‬وعندما ترتفع الشعارات الاسلامية فقط كبديل للشعارات الوطنية التي أكسبت القضية أنصارا‮ ‬في مختلف انحاء العالم فهذا خسارة لفلسطين،‮ ‬فلسطين محتلة وشعبها يرزأ تحت الاحتلال،‮ ‬وجوهر الصراع ليس دينيا،‮ ‬لكن ثمة وطنا مغتصبا يجري انتزاعه من اصحابه بخطوات مادية ملموسة ويومية،‮ ‬دفع الصراع باتجاه ديني يبدد القضية الأصلية ويخدم أهداف اسرائيل،‮ ‬هذا ما يجب ألا يغيب عنا قط مهما كانت وحشية العدوان،‮ ‬ومواجهة أخطاء قيادة حماس لاتقل أهمية عن مواجهة الاساليب الوحشية للعدوان الصهيوني،‮ ‬وكثيرا‮ ‬ما تكون السياسات الخاطئة لاصحاب قضية ما ضارة اكثر من سياسات اعدائها‮.‬ثانيا‮: ‬لمدة ستة عقود كانت القضية الفلسطينية محل اجماع بين جميع ابناء الشعب المصري،‮ ‬خلال الأيام الماضية ومن خلال قراءتي للصحف وما تبثه الاذاعات المسموعة والمرئية،‮ ‬ألاحظ أن الأزمة الاجتماعية والسياسية في مصر تنعكس علي موقف التيارات المختلفة من القضية الفلسطينية،‮ ‬كنتيجة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة منذ السبعينات وما سادها من ظلم اجتماعي حاد،‮ ‬والحاق قطاعات كبري من المصريين بحالة اللا أمل في المستقبل،‮ ‬وانهيار الخدمات،‮ ‬والاستقطاب الحاد في المجتمع،‮ ‬وانهيار مستويات التعليم مما ترتب عليه تدني الأداء في قطاعات هامة،‮ ‬منها الاعلام مثلا،‮ ‬حتي الدفاع عن وجهة النظر المصرية الرسمية لم نجد إلا وجوها محدودة التأثير والكفاءة هي التي تتصدي للحديث،‮ ‬وهذا يقودنا إلي قواعد الاختيار والتي أصبح معروفا منذ سنوات أنها تستبعد الكفاءات المهنية الرفيعة،‮ ‬وتقدم الولاءات السطحية،‮ ‬أدعو إلي تأمل الفرق بين ما كتب في الصحف المصرية،‮ ‬وما نشر في جريدة واحدة مثل الحياة،‮ ‬في مصر باستثناء أقلام محدودة جدا تعد علي أصابع اليد الواحدة،‮ ‬بدأ الأمر وكأن ديماجوجية هزيلة ترد علي ديماجوجية اعلامية عربية مرتفعة الصوت،‮ ‬من هنا بدأ الموقف المصري مرتبكا‮ ‬هزيلا،‮ ‬لايجيد من يدافعون عنه ابراز الجانب العقلاني فيه،‮ ‬ما نشر في الحياة وبعض المنابر العالمية بدا اكثر انصافا للموقف الرسمي المصري مما صدر عن معظم منابر الاعلام المصري،‮ ‬لعقود ستة ناصر المصريون القضية الفلسطينية ولم يختلفوا حولها،‮ ‬حتي في خلاف بعض القوي مع الحكومات المتعاقبة لم يصل الأمر إلي حد الشماتة في السياسات الرسمية،‮ ‬أو تمزيق جوازات السفر المصرية في عواصم عربية أو عالمية،‮ ‬كذلك الدعوة علي الانترنت إلي التخلي عن الجنسية المصرية والتي علق عليها الزميل حمدي رزق في المصري اليوم في عمود مؤثر،‮ ‬منذ شهور يسود الحياة السياسية في مصر هدوء مريب،‮ ‬سكون يخفي اكثر مما يظهر،‮ ‬وقد كشفت المواقف خلال الاسبوعين الماضيين عن حالة من الاستقطاب الحاد،‮ ‬وأصبحت الكراهية الكامنة تجد الفرصة خلال أحداث مأساوية تقتضي التوحد‮ (‬مثال حريق مجلس الشوري‮) ‬أو قضايا كبري لم تكن موضع خلاف من قبل إلي هذا الحد،‮ ‬مثل القضية الفلسطينية‮.‬ثمة لقطة تتكرر في احدي الفضائيات جري التركيز علي اعادتها مرارا هنا في المحطات المعنية بتغطية ومتابعة الحدث الدامي،‮ ‬يظهر رجل في مظاهرة بعاصمة عربية ما،‮ ‬ويصيح‮ »‬يا أهل‮ ‬غزة،‮ ‬قلوبنا معكم،‮ ‬عقولنا معكم،‮ ‬سيوفنا معكم‮«‬،‮ ‬حملة مستمرة للاثارة،‮ ‬أي كلام،‮ ‬أي معان،‮ ‬المهم استثارة المشاعر ودغدغتها أي سيوف هذه،‮ ‬واذا وجدت سيوف فعلا فبماذا تفيد،‮ ‬لكن العالم‮ ‬يلتقط معني السيوف ويضفي عليه ما ليس عندنا،‮ ‬وما لانعنيه،‮ ‬الاعلام العربي كله في الحضيض حتي الذي بدا لفترة متمتعا بقدر من الحرفية،‮ ‬ما يجب ان نتجه إليه جميعا‮ ‬كيفية ابقاء القضية الفلسطينية حاضرة في الذاكرة،‮ ‬ماثلة في الواقع،‮ ‬وجميع العناصر الآن تحيط بها لتوئدها،‮ ‬وتخفيها محققة بذلك هدف اسرائيل الحقيقي،‮ ‬ابادة فلسطين من الذاكرة،‮ ‬وهذا ما تتكفل به أيضا‮ ‬سياسات حماس وديماجوجيتها،‮ ‬وتهافت الموقف العربي،‮ ‬وسخافة الاعلام العربي بكل أطيافه،‮ ‬كيف الحفاظ علي القضية،‮ ‬هذا هو السؤال والجوهر معا‮.‬
جمال الغيطاني